Dp صائد الفراشات
الرئيسية > ثقافة > الورشة > صائد الفراشات

صائد الفراشات

أحبَّ الطبيعةَ.. عشق وجوده بين سنيّ الضوء المحملة بألوانها الباهرة. وجوده بين الأضواء والألوان يستر مساحة فارغة داخله؛ يسترها دون أن يملأ فراغها. في الغابة –حيث الطبيعة– بنى مسكنه بعيدان من قصب، وأساس من قش..

أحبَّ الطبيعةَ.. عشق وجوده بين سنيّ الضوء المحملة بألوانها الباهرة. وجوده بين الأضواء والألوان يستر مساحة فارغة داخله؛ يسترها دون أن يملأ فراغها. في الغابة –حيث الطبيعة– بنى مسكنه بعيدان من قصب، وأساس من قش..

اعتاد كل صباح بعد تناول الإفطار أن يُقَبِّل أبناءه قُبلةً روتينيةً، ويخبر زوجته بابتسامة مصطنعة أنه سيفتقدها طوال غيابه، ثم ينظر إلى صورته التي رسمها وألصقها على المرآة بأكملها ليتأكد من أنه –أي أنها- كما يجب أن يكون.

في عمق الغابة تتنقل فرائسه بخفة وحيوية، تلك الكائنات الصغيرة والضعيفة شديدة الجاذبية. يبحث عن أكثرها ذكاء وجمالا وتميزا، يتفنن في نصب المصائد والشراك؛ تلك الشراك التي يغزلها بحنكة ودهاء، بفتلة من حرير وأخرى من حديد، ثم يلقي طُعْمَه الذي هو مزيج من السم والعسل، وينتظر رحيل الشمس.

وأخيرا يضيء كشافاته لينبعث ضوؤها –علا أو خفت– على حسب نوع الفراشة.. “ورغم إحساسها بالخطر لا تقاوم انجذابها لمصدر الضوء”، هذه هي طبيعة الفراشات. وعندما تسقط، يخترق صدرها بسلك صلب، ليصنع منها حلية، يضعها جوار ضحاياه السابقين في طوق إنجازاته الذي يزين به صدره دائما. يزين صدره بتهشيم صدرها، ويرضي غروره بإزهاق روحها(!).

في ذلك اليوم وجد ضالته.. فراشة صغيرة تتألق بألوانها الرائعة بديعة التناسق وخفتها غير العادية. كانت أكثر ذكاء من كل الفراشات التي قابلها من قبل، لم تفلح معها الشِراكُ والمصايدُ، استطاعتْ أن تصل للضوء دون أن تسقط..

لم تسلب الأضواء الصناعية وعيها. حاول مراوغتها ومداعبتها.. منحها بعض الأمان الوقتي وانقضّ عليها؛ إلا أنها كانت دائماً تستشعر الخطر قبل قدومه بلحظة، وكانت دائما تسبقه للنجاة بلحظات. كلما نجت من شَرَك، استشاط غضباً، وازداد رغبة في امتلاكها.. ما زالت تنجو ومازال إصرار رغبته ينمو، حتى صار شبحاً طمس روحه فنسي كل شيء عدا فريسته. لمعت فكرته الشيطانية قبل الشروق بساعة..

إن لم يستطع اقتناصها فيكفيه أن يحرم أي أحد آخر منها. عندما تبدر الشمس رماح أشعتها لتبدد جيوش الظلام، سوف تنفتح لها السماء فتطير أينما تشاء وكيفما تشاء، ولن يستطيع اللحاق بها.

بدأ في تنفيذ خطته.. جمع الحطب في عجالة بهمة عالية؛ كوّمَ الحطبَ فوق جذع شجرة سبق أن حُرمت من الحياة هي الأخرى. وأشعل النيران فتعالت ألسنتها، إلا أنها لما تكن أكثر حدة من الشرر المتطاير من عينيه. كالسحر كانت الفراشة تستسلم لنداء النار، دارت حولها مرتين، شربت الكأس الأخيرة من دخانها، وارتمت في سعيرها. عندها فقط امتلأت عيناه بنشوة الانتصار..

عندها فقط شعر كأنه ملك متوج على الكون بأسره، عندها فقط خط التاريخ أنه أبرع صائد فراشات؛ وخط أيضا أن ابنته كانت طعاما لوحوش الغابة.. عند هذه اللحظة فقط.

شيماء زايد

 

التعليق:

شيماء من رواد القصة المتميزين والمتميزات، لكن هذه القصة تعلو بقامتها. لغة دقيقة، مكثفة، شفافة، ودرجة عالية من الترميز، تشير إلى أزمة البطل من بعيد، حتى تأتي الجملة الأخيرة فتزيد البعد بعداً إلى درجة الغموض.

أعتقد أننا نحتاج إلى جملة واحدة ربما في بداية القصة، بعد “أبناءه”، أو إعادة صياغة الجملة الأخيرة مع التقديم أو التأخير.
كذلك يستحسن تغيير العنوان فهو شائع.

د. سيد البحراوي
أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة

 

اعلان