Dp أفلام الحافظة الزرقاء.. الأب الروحي (1)
الرئيسية > كلام في الفن > سينما > أفلام الحافظة الزرقاء.. الأب الروحي (1)

أفلام الحافظة الزرقاء.. الأب الروحي (1)

اعتمد الفيلم على رواية بنفس الاسم للأديب إيطالي الأصل "ماريو بوتسو"، وهو يعرف المافيا جيّدا، بل يبدو كأنه (دون) من زعمائها بشكله الفخم المميز


كوبلا قدّم فيلمين يتنافسان على قمة أعظم الأفلام في العالم

هناك مَن يعتبرون أفضل الأجزاء هو الثاني، وإن كنت عن نفسي أفضّل الأول، لكن هناك شِبه إجماع على أن الجزء الثالث هو أضعف الأجزاء الثلاثة.

يبدأ الفيلم بمشهد افتتاحي ضخم هو زفاف ابنة الدون كورليوني (مارلون براندو).. هنا تقريبا يقدّم لنا الفيلم كل الممثلين وكل اللاعبين ونفهم كل العلاقات، عن طريق القطع بين حفل الزفاف نفسه، وبين الدون الذي ينسحب من وقت لآخر لغرفة المكتب ليُجري مقابلة سريعة.

نعرف مساعديه ونعرف محاميه الأريب “روبرت دوفال”، ونعرف أنه يُدير شبكة قمار عبر الولايات المتحدة كلها.. ذراعه اليمنى هو ابنه المندفع “جيمس كان”، وله ابن آخر ضعيف الشخصية متخاذل “جون كازال”، وهناك ابن مهذّب يريد له أن يظلّ بعيدا عن القاذورات هو “آل باتشينو”، وهو يبدو كالفتيات الرقيقات فعلا في هذا الجو، وكما يُردّد لحبيبته التي تجلس معه في الزفاف: هذه أسرتي.. ليس أنا..

نحن لا نعرف خلفية “الأب الروحي” جيّدا.. نعرف فقط أنه قوي جدا، وأنه يتمتّع بجانب إنساني لا بأس به.. وفي الجزء الثاني نعرف خلفيات فراره من صقلية إلى الولايات المتحدة ونشأته في الأحياء الفقيرة، وكيف تعلم أن يصير مجرما.. إلخ… لكن ليس في هذا الجزء.

التفاصيل الصغيرة والأداء المذهل من الممثلين هو ما يصنع قوة هذا الفيلم المدهش، وفي المشهد الافتتاحي نعرف جزءا من قواعد هذا المجتمع المتشابك… إنني أقدّم لك خدمة مقابل أن تظهر الاحترام لي، وتُؤدّي لي خدمة في وقت ما، لا أعرف متى ولا أين.. وهكذا نعرف مشكلة الحانوتي الذي تبنّى فتاة صغيرة ثم هاجمها وغدان حاولا اغتصابها وكسرا فكّها.. إنه يريد الانتقام. يرفض “الأب الروحي” في البداية لأن الحانوتي لم يأتِ له من قبل ولم يعرض صداقته عليه، ثم يُوافق على تلقين الوغدين درسا على أن يظلّ الحانوتي مدينا له بخدمة واحدة لا يعرف ما هي بعد.. فيما بعد سوف نعرف أن هذه الخدمة المشئومة هي أن يجمّل جثمان ابنه حتى لا تراه أمه ممزقا.

شاهد المشهد الافتتاحي مع الحانوتي

 

هنا سخرية واضحة.. الحانوتي يحبّ المجتمع الأمريكي بينما لا نرى من هذا المجتمع سوى عالم العصابات ورجال الشرطة الفاسدين.. وكما قيل عن الفيلم إنه يظهر “دمار الحلم الأمريكي”.

هكذا تتواصل التفاصيل الصغيرة وتتدفّق المعلومات أثناء حفل الزفاف، لكن الجو حميم جدا فلا يخطر ببالك أبدا أن هذه عصابات.. مجرد أسرة إيطالية ظريفة في زفاف، وفيما بعد استنسخ المخرج مايكل شيمينو هذا المشهد تقريبا في فيلم “صائد الغزال”، لكنه جعل الأسرة روسية.

شاهد لقطات من حفل الزفاف الإيطالي المليء بالحيوية


وفي هذا الحفل سوف نقابل الممثّل الذي بدأ نجمه يخبو، والذي يريد أن يُساعده دون كورليوني على أن ينال دورا في فيلم جديد.. هنا نعرف جانبا من أساليب كورليوني؛ فهو يُرسل المحامي الملاكي الخاص به إلى منتج الفيلم ينصحه بأن يعطي الدور لهذا الممثل، ونعرف لأول مرة تعبير “عرض لا يمكن رفضه”.. هذا تهديد خفي باستعمال العنف، وبالفعل يرفض المنتج فتكون النتيجة أنه يصحو في فراشه ليجد رأس حصانه الجميل المفضّل غارقا في الدم تحت الملاءات..

“عرض لا تستطيع رفضه” تعبير اقتحم الثقافة الشعبية منذ قدم فيلم “الأب الروحي”

في نفس الحفل نقابل مشكلة الفيلم الحقيقية.. التركي.. تاجر المخدرات الذي يحلم بأن يبيع الهيروين في الولايات المتحدة مقابل أن يمنحه دون كورليوني نفوذه. يرفض دون كورليوني هذا؛ لأنه يجدها لعبة خطرة جدا و”غير أخلاقية”. حسب منطقه فالقمار خطيئة بسيطة يفرج بها الرجل العادي عن نفسه، لكن المخدرات تدمير كامل للمجتمع الأمريكي.

هكذا يُعلن التركي الحرب بالاستعانة بالأسرة المنافسة “تاتاليا”.. وهذا هو موضوع الفيلم الذي أعتقد أن الجميع يعرفونه فلن أحكيه.. دعك من أن الفيلم يُعرض في التليفزيون كثيرا جدا فلا تفوت فرصة مشاهدته. هذا الصراع هو الذي سيُؤدي بالابن الوديع آل باتشينو إلى أن يصير من زعماء المافيا، ولسوف يقتل التركي مع مدير البوليس في مشهد رهيب، وبهذا يتمّ تجهيزه بالدم ليصير الأب الروحي الثاني

 

وهكذا تضطرّ الأسرة إلى تهريب آل باتشينو إلى صقلية -مسقط رأس الأسرة- بضعة أشهر، وهنا يأتي أكثر أجزاء الفيلم عذوبة، مع موسيقى الرعاة في صقلية التي صنع منها الملحن العالمي نينو روتا لحنا لا يمكن نسيانه، وهو الذي أضاف له المطرب أندي ويليامز كلماته لتصير أغنية “تكلّمي بنعومة يا حبيبتي” الشهيرة جدا..

هناك مَشاهد لا يمكن نسيانها أبدا؛ مثل مشهد مقتل الابن سوني (جيمس كان)، وهو مقتبس من مشهد موت بوني وكلايد في الفيلم الشهير، والأب يحمل جثمانه إلى الحانوتي الذي قابلناه في أول الفيلم.. الخدمة التي حان وقتها هو أن يجعل الجثة التي مزّقها الرصاص قابلة لأن تراها الأم.. وهنا إضاءة مقبضة قادمة من أعلى تميّز بها الفيلم كله، وأبدع فيها المصور ألبرت رودي، مع أداء مذهل من براندو؛ خاصة وهو يقول:
– “هل رأيت كيف مزّقوا ولدي؟”

هناك كذلك التحوّل المذهل في شخصية آل باتشينو من فتى مهذب خجول أقرب للفتيات، إلى تلك الشخصية المخيفة التي تستطيع القتل بمجرد النظرات.. إن الممثل المرعب في آل باتشينو ظهر بوضوح، لكنه كان محاطا بعمالقة تمثيل من وزن براندو وروبرت دوفال لذا كان عليه أن ينتظر فيلم “بعد ظهر حار” حتى يتألّق كالنجم وحده.

هناك كذلك مشهد شهير جدا في عالم المونتاج “مونتاج ويليام رينولدز” يستخدم لتدريس المونتاج المتوازي في كل مكان، ولسوف تجده في كل كتاب سينمائي.. مشاهد تعميد ابن آل باتشينو في الكنيسة تتداخل مع مشاهد قتل باتشينو لكل خصومه.. هذا نوع آخر من التعميد يجعله الأب الروحي للمافيا هذه المرة.

هناك رسائل خفية في الفيلم؛ مثلا لا بد من أن يظهر البرتقال قبل أي مجزرة أو مذبحة.. البرتقال ثم الدم.. هذه هي القاعدة.

كان أداء مارلون براندو رائعا؛ خاصة مع الماكياج الذي جعله أكبر سنا مع انتفاخ ودجيه، ونبرة الصوت المبحوحة لأن الشخصية أصيبت برصاصة في الحنجرة في الماضي. وقد انبهر كثير من رجال المافيا الحقيقيين بالأداء لدرجة أن بعضهم افتعل لنفسه طريقة الكلام ذاتها، لكن براندو لم يقبل جائزة الأوسكار، على سبيل الاحتجاج بسبب تصوير السينما الأمريكية الظالم للهنود الأمريكيين كما قال.

نال الفيلم أوسكار أفضل فيلم وأفضل ممثّل وأفضل سيناريو، وكان من المتوقّع أن ينال أوسكار أفضل موسيقى، لكن تبيّن أن نينو روتا استعمل اللحن ذاته في فيلم سابق، وهكذا تمّ حذف الترشيح وإن نال جائزة الكرة الذهبية.

إن الفيلم يحتاج لعدة مقالات للكلام عنه، وفي كل مشاهدة تكتشف نقاطا رائعة لم تلحظها أول مرة.. ولنا لقاء جديد مع الحافظة الزرقاء إن عشنا.

 

اعلان