الدولة المدنية والعلمانية في نهج الإمام محمد عبده
استوقفت فتاوى الإمام الجريئة بعض المشايخ ممن قالوا بأنهم أنصار السلف؛ مثل فتوى جواز إيداع المال وأخذ الفائدة، وحِلِّية ذبائح أهل الكتاب، وجواز ارتداء ملابسهم، وأن النقاب ليس من الدين في شيء
كلما زادت الأمة جهلاً زادت تمسكاً بقشور دينها، وكلما زادت نكوصاً واستعماراً، زاد تجهيلها للغير، وهجومها على كل ما يأتي منه بحكم العداء العام الذي لا انتقاء فيه..
كانت هذه فحوى دعوة الإمام محمد عبده، التي بنى عليها منهجه، وقامت عليها مؤلفاته، وعلى أساسها بدأ عمله الإصلاحي.. ومن منطلقها كان الهجوم عليه، واتهامه بالعمالة والتواطؤ مع الغرب والاستعمار؛ نظراً لما أحدثته دعوته في ظاهرها من إرضاء للغرب، ولم تكن يوماً إرضاء لهم؛ لكن ذوي العقول الضيقة من أمتنا لم يروا فيها إلا سطحها، وما فرح الإنجليز والاستعمار بها إلا لما أحدثته من تخبّط بين صفوف الأمة؛ حين ثار التقليديون منهم على كل جديد؛ بحجة أنه خروج على الدين وهدم للتراث.
الحقيقة أن هذه الحالة لم تُصِب رجال الدين وحدهم في فترة الاستعمار وتذيّل الأمة الإسلامية والعربية باقي الأمم؛ بل أصابت العلماء في كل مجال من مجالات العلوم كالأدب والفنون وبعض العلوم الطبيعية؛ ففي الدين ثاروا على المجددين في الدين (المجددون في تعلّم الدين وتعليمه لا في تأصيله)، والأدب والفنون.. وهكذا كان الإمام محمد عبده أحد هؤلاء الذين ثار عليهم القوم.. فمن هو الإمام؟ ولماذا كانت الجفوة بينه وبين بعض معاصريه، ومَن تبعهم؟
من هنا بدأ
وُلد الإمام محمد عبده سنة 1849 في قرية بمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، ثم التحق بالأزهر، وحصل على شهادة العالِمية، وفي سنة 1879 عمل مدرساً للتاريخ في مدرسة دار العلوم.
وعندما قامت الثورة العرابية سنة 1882 اشترك فيها، وبعد فشل الثورة سُجن ونُفِيَ إلى بيروت، وهناك قابل الإمام جمال الدين الأفغاني، وأعجب به، ونهل من علمه، وتبنى نهجه، ووضعا معاً أسس الإصلاح الديني في العالم الإسلامي.. ثم سافر إلى باريس سنة 1884 بتشجيع منه، وهناك أسّس صحيفة “العروة الوثقى”، وبنفس الاسم أسّس جمعية سرية في بيروت.. ثم التقى بعد ذلك بتلميذه النجيب الشيخ الفاضل محمد رشيد رضا.
وفي سنة 1889 عاد إلى مصر بعفو من الخديوي توفيق، ووساطة تلميذه سعد زغلول، وإلحاح نازلي فاضل على اللورد كرومر بالعفو عنه.. ثم عُيّن قاضياً بمحكمة بنها، ثم انتقل إلى محكمة الزقازيق، ثم محكمة عابدين، ثم ارتقى إلى منصب مستشار في محكمة الاستئناف عام 1891.. وفي عام 1899 عُيّن في منصب المفتي، ثم عُيّن عضواً في مجلس شورى القوانين، وأسس جمعية إحياء العلوم العربية لنشر المخطوطات.
المنهج الإصلاحي وخيانة الأمة
كان أهم ما يشغل الإمام محمد عبده حال المسلمين في زمن الاستعمار، وما آلت إليه مناهج التفكير الديني والعلمي بعد أن حصرهم الغرب في قوالب جامدة، أوهمهم بأنهم بها يحافظون على تراثهم.. وكان همه هو والأفغاني ينصبّ على يقظة العالم الإسلامي على مواجهة الغرب الذي يرغب في الاستيلاء على مصادر الثروات الطبيعية والبشرية في ديار الإسلام الممزقة التي يحكمها الجهل؛ لذلك قاما يهدمان الخرافة والدروشة والانحصار في الشكليات والدعوة للدخول في الحياة المادية؛ فالمسلم شقّان عبادي ومعاملاتي، وقوة المسلم في عبادته وريادته لا ينفصل جزآه مهما حاول المنغلقون فصله.
استوقفت فتاوى الإمام الجريئة بعض المشايخ ممن قالوا بأنهم أنصار السلف؛ مثل فتوى جواز إيداع المال وأخذ الفائدة، وحِلِّية ذبائح أهل الكتاب، وجواز ارتداء ملابسهم، وأن النقاب ليس من الدين في شيء، وهي دعوى ظهرت أصداؤها حديثاً لدى عدد من مشايخ الأزهر وغيرهم، كان لها معارضوها ومناصروها.. كما كانت له آراء أخرى في التفسير يختلف فيها عن آراء السلف؛ غير أنه لم يتعرض للقضايا الأصولية والإيمانية؛ شأنه في ذلك شأن كثير من المجددين.
ولذلك راجت الدعاوى قديماً وبعض الدعوى الجديدة، بأن الإمام كان متواطئاً مع الإنجليز لتخريب العقول الإسلامية والنخر في هيكل الدين، وأخرى بأنه ماسوني تبنى هذا الفكر ودافع عنه وروّج له.. يلتفّ مهاجموه حول فكرة أن:
الاستعمار لم يجد مدخلاً للمصريين من قِبل دينهم؛ فالشعب المصري متدين بطبعه، ويأبى أن يحكمه شخص من غير ملته، ولذلك كان قبولهم بوجود المستعمر التركي متمثلاً في خليفة المسلمين.. فوجد المستعمر الغربي بغيته في الإمام محمد عبده؛ ليبثّ روح السكينة والرضا بهم، ويزجّ أفكارهم بين ثنايا الدين.. وأخذوا يدلّلون على ذلك بعدة كتابات له تخصّ الدولة الدينية والدولة المدنية، وأنه دعا للدعوة المدنية التي يكون فيها الحُكم لغير الإسلام أو بغير شرعه، بل تكون مزيجاً من هذا وذاك، تأخذ من الإسلام تعاليمه فيما يخصّ حياة الناس العامة ومحافلهم، وتحكم بينهم في القضايا السياسية ونحوها بقانون وضعي اصطلح عليه مواطنوه مسلمين وغيرهم.
وقد عُرف عنه -لدى غير المتعصبين من معارضيه- الاجتهاد وإخلاص النية وتبنّي فكر ومنهج إصلاحي، لم يسبقه فيه إلا الأستاذ حسن البنا؛ ففاقه بكثرة متبعيه، وشمولية منهجه.. وقد عُدت بالفعل لعدد من مؤلفاته أتلمس ما قالوه في فكره؛ فما وجدت إلا نموذجاً إصلاحياً خصباً، وعزيمة فتيّة متّقدة لرفعة الأمة.. ولم نجد فيها إلا ما يشهد له.
ولم يألُ الإمام جهداً في مواجهة العقول المتحجرة: “يجب ألا تكون الكلمة الأخيرة للنصوص البالية أو السلطات البائدة؛ بل الحياة النابضة ولروح الترقّي المتصل، وتوخي المصالح العامة.. فإن فكراً يكون مقيداً بالعادات مستبداً للتقليد؛ لهو فكر ميت لا حياة فيه ولا قيمة له”.
ثم أصابه ما أصاب قاسم أمين من قبله في قضية تحرير المرأة.. وحامت شكوك حول تورّطه في كتاب قاسم أمين، فقال الدكتور محمد عمارة: “والرأي الذي أؤمن به والذي نبع من الدراسة لهذه القضية هو أن هذا الكتاب إنما جاء ثمرة لعمل مشترك بين كل من الشيخ محمد عبده وقاسم أمين، وأن في هذا الكتاب -يعني كتاب تحرير المرأة- عدة فصول قد كتبها الأستاذ الإمام وحده، وعدة فصول كتبها قاسم أمين، ثم صاغ الأستاذ الإمام الكتاب صياغته النهائية؛ بحيث جاء أسلوبه على نمط واحد هو أقرب إلى أسلوب محمد عبده منه إلى قاسم أمين”.
وبلغ ببعضهم أن رأوا بحسناته وهمّته في رأب صدع الأمة والنهوض بها وتحقيق مكانة لها وتواصل مع غيرها من الحضارات، ثغرة في نواياه وانتماءاته؛ فرأوا شغله الشاغل في تحسين صورة الإسلام في أعين الغربيين، والنهوض بالأمة، نهضة مادية كالتي كانت في أوروبا يومها، أنه بذلك أراد استرضاء الغرب ومهّد لهم الطريق فعبروا هم إلينا واخترقوا دواخلنا!!!
والحق يقال أنه مهما كان خلافنا في بعض الأفكار، ومهما بلغ معارضوه من شطط في اتهامه في عقيدته ونيته وانتماءاته؛ فلا يمكن القول إلا أن الإمام محمد عبده كان وسطياً أصاب الجانب الأعظم من الحق، وأراد أن تكون الأمة الإسلامية أمة ودولة وحضارة لها مكانها بين العالم، يراها الغرب فلا يستنكرونها، ويؤدي تآلفهم معها إلى الأخذ والرد وعرض أفكارها فتسمع ولا تُعارض.. وما نرى غالب ما جاء عليه من هجوم إلا مماثلاً لكل هجوم على كل مجدد.
بين دفتين
جاءت جُلّ مؤلفاته في أفكار نشرها بداية في مجلة “العروة الوثقى” التي أنشاها مع جمال الدين الأفغاني، ولم تجُد المكتبة العربية بالكثير علينا من مؤلفاته الكبيرة؛ سوى بعض آراء فقهية نشرها أو نُشِرت عنه؛ بخلاف بعض المطبوعات مثل:
– تفسير للقرآن: الذي لم يكمله وتابعه من بعده تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا تحت اسم “تفسير المنار”؛ لكن وافته المنية هو الآخر قبل إتمامه، وسنتناول سيرة الشيخ رشيد رضا في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
– رسالة التوحيد.
– شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني.
– نهج البلاغة.
– الإسلام بين العلم والمدنية.
وبرغم قلة ذلك فإن ما نقل عنه من محبيه أو معارضيه من آراء أو منهج اتبعه المصلحون والداعون من بعده، يفوق كل كلمات يحويها كتاب.
وفاته
وفي 11 يوليو عام 1905 توفي الشيخ بالإسكندرية، بعد معاناة من مرض السرطان عن سبع وخمسين سنة، ودفن بالقاهرة ورثاه العديد من مثّقفي الأمة وشعرائها، وبعض علماء الأزهر.
وعلى ما جاء في بعض أفكاره وآرائه من مخالفات لجمهور العلماء، لا نملك إلا أن نقف له إجلالاً واحتراماً على ما قدّمه للأمة ولا يملك أحد المراء فيه، وما تكبده من شقّ طريق الإصلاح المستنير والخروج بمؤسسة الأزهر وأمثاله من مجاهل الانغلاق والتقليد.
فرحمه الله رحمة واسعة وعفا عنه ونفعنا بعلمه،،،