Dp بلال فضل يكتب.. عقلية التخاصم
الرئيسية > سياسة > مقالات رأي > بلال فضل يكتب.. عقلية التخاصم

بلال فضل يكتب.. عقلية التخاصم

دونا عن كل المذاهب الإنسانية، الديمقراطية بنت حلال ومهاودة إلى أبعد الحدود، ولذلك فهي لا تشترط على من يثور من أجل تطبيقها أن يكون ممارساً لمبادئها أو حتى مؤمناً بها من أصله

دونا عن كل المذاهب الإنسانية، الديمقراطية بنت حلال ومهاودة إلى أبعد الحدود، ولذلك فهي لا تشترط على من يثور من أجل تطبيقها أن يكون ممارساً لمبادئها أو حتى مؤمناً بها من أصله. ستدرك ذلك لو نظرت إلى ممارسات بعض الثوار وتصريحاتهم وكتاباتهم وآرائهم في كثير من الذين شاركوهم الثورة، وستكتشف كم نجحت عهود الاستبداد الطويلة في أن تعيد إنتاج الاستبداد بداخل المعارضين للاستبداد، فأخذ كل منهم يتصرّف بنفس منطق المستبدّ الذي ثار ضده.

ألا ترى كيف امتلأت وسائل الإعلام المختلفة بثوار وناشطين سياسيين، كل منهم يتعالى على الشعب، ويتعامل معه بوصفه جاهلا ومغرّراً به وقابلاً للخديعة، وعندما تأتيه فرصة الانتخابات لن يعرف مصلحته، وسينتخب من يضحك عليه باسم المال أو الدين، ليس عندي مانع أن يعتقد شخص بأن ذلك حقيقي ويقدم شواهد على ما يقوله، لكنني فقط لا أفهم ما هو الفرق بين هذا الرأي الشائع الآن في بعض ميادين الثورة، وبين آراء المستبد حسني مبارك ورئيس وزرائه المستبد أحمد نظيف ونائبه المستبد عمر سليمان، ولماذا اتهمناهم إذن بإهانة المصريين وعدم أهليتهم لحكمهم؛ هل لأنهم قالوها “بالمفتشر”، وبعض الثوار يقولونها “بالمتداري” بدعوى خوفهم من سرقة الثورة، وما إلى ذلك من كلام يخفون به عجزهم عن النزول إلى الشارع ومواجهة الحقيقة دون تسويف أو تأجيل.

بلاش، ألا ترى كيف بات الكثير من الثوار، الذين ضحوا بحياتهم من أجل الحرية، يعيدون إنتاج أسطوانات التخوين والإقصاء مع كثير ممن يختلف معهم في الرأي؟

هل شاهدت في الأسبوع الماضي كيف جلس عدد من شباب الثورة في برنامج تليفزيوني، للحديث عن برامجهم الحزبية، فأخذوا يتبادلون الاتهامات على الملأ ويسفّه بعضهم بعضاً، في سابقة لم تحدث في تاريخ الثورات على حد علمي المتواضع؟

عادة يتخانق الثوار في العالم على المكاسب بعد نجاح ثورتهم، وأما أن يردحوا لبعضهم وهم لم يكملوا نصف مشوار ثورتهم أصلاً، فذلك إنجاز جديد نضيفه إلى تاريخ إنجازاتنا الثورية، سبق أن قلت في 22 مارس في مقالة بعنوان “انزل إلى الشارع” ما يلي: “وسيشهد التاريخ الإنساني أغرب حالة ثورية على الإطلاق، ثوار يغيرون مصير بلاد، لكي يتحوّلوا إلى معارضين منبوذين؛ لأنهم لم يجدوا وسيلة ناجعة للتواصل مع الناس، ولأنهم بفضل الرعونة والانفلات وعدم تحديد الأولويات وعدم قراءة الواقع جيداً، حوّلوا الأغلبية الصامتة إلى أغلبية تعمل ضدهم بنفس الآليات التي دفعوا حياتهم ثمناً من أجل تحقيقها”. ولم أكن أتخيل وقتها أن مشكلة الكثير من الثوار لن تكون مع الناس، بقدر ما ستكون مع بعضهم بعضا.

بالله عليك، ألم تكن مشكلتنا مع عهد حسني مبارك، أنه كلما قال أحد منّا رأياً معارضاً انقضّ عليه أتباع مبارك عضاً وتخويناً واتهاماً، بأنه لا يقول رأيه لوجه الله، بل يمتلك مصالح خفية تجعله يقول ذلك الرأي، ألا ترانا وقد أصبح الكثير منا الآن يفعل ذلك مع كل رأي يختلف معه، ولم يعد ذلك يستثني أحداً، كبيراً كان أو صغيراً. هل تتذكر ما تعرّض له المستشار الجليل طارق البشري من شتائم واتهامات وإهدار لقيمته وتاريخه المشرق الطويل في القضاء والفكر والتاريخ، ليس لأنه انحاز لعهد مبارك مثلا؛ بل لأنه سلك طريقاً مخالفاً في التعامل مع الفترة الانتقالية، أعتقد برغم اختلافي مع منهجه، أنه لجأ إليه بحكم امتلائه بالتجربة التاريخية التي أعقبت ثورة يوليو 1952، وخوفه من تكرار ضياع فرصة الديمقراطية بدعوة العسكر للبقاء في الحكم أكثر، أياً كانت المبررات.

خذ عندك أيضا ما جرى للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، الذي كان الكثيرون ينهالون عليه بالثناء والتمجيد، ثم فجأة لما أعلن رأياً مخالفاً لما يعتقدونه، وقال إنه لا يجد حرجاً في تسمية المشير طنطاوي رئيسا للجمهورية لفترة انتقالية، انهالت عليه عواصف شرسة من الشتائم كان أقساها اتهامه بأنه قال ذلك الرأي مجاملة للمجلس العسكري؛ لكي يعفي ابنه من التحقيق في قضية شراكته مع جمال مبارك، بالمناسبة أختلف مع الأستاذ هيكل في رأيه جملة وتفصيلا، لكنني لا يمكن أن أهيل التراب على تاريخ الرجل وعطائه لمجرد أن رأيه لا يعجبني، ولا أفعل ذلك من باب ما قاله المتنبي “فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً.. فأفعاله اللائي سررن ألوف”، بل لأنني أؤمن بأن الثورة قامت لكي يقول كل إنسان رأيه كما يحلو له دون أن يتعرّض لتخوين أو اتهامات رخيصة أو تشويه للسمعة والسيرة، فما بالك إذا كان قائل هذا الرأي هو هيكل بجلالة قدره، يمكن أن أختلف معه في رأيه بشدة، لكن أن أفتش في نواياه وضميره وأتهمه بتهم شنيعة كالتي قيلت، فهذا أمر يدعو للخجل والقرف.

مع الأسف لم يعد بعض الثوار يعطون أنفسهم فرصة للتحاور الحضاري مع أي رأي مخالف، أياً كان المنطق الذي يقدمه هذا الرأي والأمثلة أكثر من أن تحصى: اقرأ مثلا الشتائم التي يتم توجيهها على تويتر وفيس بوك، من ناشطين سياسيين كثيرين لائتلاف شباب الثورة، الذين أصبح لهم اسم كودي غير صالح للنشر، فضلا عن الشتائم والاتهامات التي لا تترك أحداً إلا وانهالت عليه؛ من الدكتور عصام شرف وعمرو حمزاوي إلى ضياء رشوان وعمرو الشوبكي ومحمد أبو الغار ومحمود سعد وفهمي هويدي، بل إنني صعقت عندما وجدت أن إبراهيم عيسى وعلاء الأسواني تم ضمهما أخيراً إلى قائمة المتخاذلين ثورياً من وجهة نظر بعض أهل الحنجوري على رأي عمنا محمود السعدني. ضربت أخماساً في أسداس عندما وجدت ناشطة سياسية بارزة تدعو لعمل قائمة سوداء تضم المفكر الكبير الدكتور جلال أمين والناشر هشام قاسم والأستاذ عادل حمودة والناشطة نوارة نجم؛ لأنهم حضروا ندوة اقتصادية للقوات المسلحة، معتبرة ذلك خيانة منهم للذين تعرضوا للانتهاك على يد الجيش أمام السفارة الإسرائيلية، وكأن الأفضل كان ألا يذهب هؤلاء ليعلنوا رفضهم لما حدث صراحة بدلا من أن نظل جميعا نكلم بعضنا بعضا، فلا يصل سخطنا إلى أحد.

بعدها قرأت لناشط حقوقي كبير تدوينة يشبه فيها الدكتور معتز بالله عبد الفتاح بالدكتور محمد كمال؛ لمجرد أن الاثنين درسا في أمريكا! مع أن أي قراءة منصفة تدرك أن هناك فارقا بين الاثنين أكبر بكثير من الفرق بين السما والعمى، للأمانة تذكرت حينها خطأ وقعت فيه أنا نفسي، عندما قلت إن الدكتور عصام العريان يذكّرني بصفوت الشريف، وهو أمر لم يكن يصح أن أقوله أبدا، وأعتذر من كل قلبي عنه للدكتور عصام، فلا يصحّ أبدا تشبيه فاسد بمناضل حتى لو كنت أختلف معه في توجهه أو في طريقته المستفزّة، لكن لأن الحياة كما يقولون سلف ودين، فقد قرأت على الإنترنت شتائم توجّه لي وللأستاذ إبراهيم عيسى والأستاذ حسام تمام؛ لمجرد أننا قلنا في برامج تليفزيونية إن الذهاب للتظاهر أمام السفارة الإسرائيلية أمر قد لا يكون في مصلحة القضية الفلسطينية نفسها، وإن الأولوية الآن للجبهة الداخلية المصرية، مع أن ذلك ما قاله خالد مشعل بالنصّ، ومع أننا جميعا وقفنا بشدة ضد ما تعرّض له الناشطون السياسيون من انتهاكات على يد الشرطة والجيش.

أنا شخصيا تكرر ذلك الهجوم معي في كل المرات التي كنت أنتقد فيها اعتصاما أو مظاهرة، فأجد نفسي فجأة أصبحت خائنا وعميلاً، حتى لو ظللت متمسكاً بموقفي في رفض أي انتهاكات لحقوق الإنسان تحدث عند فض ذلك الاعتصام، وهو أمر لا أزكي فيه نفسي، بل تشهد لي فيه كتاباتي، ولست بحمد الله ممن يناضلون خلف أسماء مستعارة، أو داخل “خن من الأخنان”، بل أعبّر عن مواقفي في النور، مستعداً لتحمل ثمنها أياً كان.

لاحظ أن كل الشخصيات التي ذكرتها سلفاً، تتعرض أصلا لأقذع الشتائم من أنصار حزب “أنا آسف يا ريس”، بوصفهم من بتوع الثورة الذين خربوا البلد، ومع ذلك فإن تعامل بعض الثوار مع هؤلاء الذين شاركوهم الثورة لم يختلف في طريقته الفجة عن منهج حزب “أنا آسف يا ريس”، صحيح أن الحكاية لم تصل بعد إلى الضرب بالمطاوي، كما يفعل أنصار المخلوع، لكن من يدري ما تخبئه لنا الأيام المقبلة. وإذا كان هذا تعامل الثوار مع بعضهم، فحدّث إذن ولا حرج عن تعاملهم مع الذين كانوا يمتلكون مواقف سلبية أو متحفظة من الثورة، حتى لو لم يكونوا قد أعلنوا عداءهم لها صراحة، بل أبدوا تحفظات على مسيرتها، مع الأسف فوجئت بفنانين كبار أحترمهم وأقدّرهم يتصلون بي، لكي أتدخل لدى قناة دريم، لكي تمنع عرض حلقة الدكتورة لميس جابر من برنامج “يا مسهرني”، وفوجئت بأن القناة كما نشر موقع الدستور الأصلي قد عرضت الحلقة بعد حذف ما بها، مع أن كل ما تقوله وتكتبه الدكتورة لميس ليس فيه كلام معجز، وكله يمكن أن يناقشه ويفنده بسهولة أي قارئ للتاريخ مثلها.

لا يتسع المقام هنا لكي أذكرك بكل ما تعرض له بعض الذين اختلفوا مع الثورة والثوار، من هجوم وشتائم وإهانات، حتى لو كانوا أناساً لهم سجلات مشرفة وقامات سامقة، وحتى لو كان ما قالوه نابعاً من رغبة في الاختلاف أو من عدم فهم، ولم يتورط أي منهم في توجيه اتهامات كاذبة للثورة والثوار، فيستحق على ذلك الحساب والمقاطعة والهجوم الشرس.

إنها مع الأسف “عقلية التخاصم” والتعبير للمفكر العربي المهم إبراهيم محمود، الذي كتب عن هذه العقلية كتابه “الفتنة المقدسة”، والذي أفرده لدراسة عقلية التخاصم في ثقافتنا العربية الإسلامية، والتي تحولت إلى “سلوك متوارث يتشكل في إطار ما يمكن تسميته بالذاكرة الجمعية التخاصمية، تلك التي تقوم على التصنيف والتوصيف، الحذف والانتقاء والإبقاء، تصنيف الناس إلى مجموعات حسب قربها أو بعدها من وعن توجهاتنا المسلكية، وتوصيفها انطلاقا من هذه العقلية، وحذف ما تقبله تلك العقلية وانتفاء ما يتفق مع مكوناتها الموجهة، والإبقاء على ما يعزز من وفي حضور هذه العقلية: عقلية التخاصم”.

طيب، هل يعني كلامي هذا ألا نختلف مع بعضنا بقوة، وألا نسخر من آراء بعضنا بعضا إذا كانت مستفزة أو غريبة؟! هل يعني ذلك أن نتحوّل إلى رهبان في معابد التبت لا يستفزنا شيء ولا يعكّر صفونا شيء، أعتقد أنني آخر شخص يمكن أن تنتظر منه ذلك، وصحيفة سوابقي تشهد لي، لكنني أزعم أنني أحاول دائما أن أختلف مع الآخرين بكل قوة (مفرطة أحيانا)، دون أن أمارس عقلية الإقصاء والتخوين والاستبعاد والتفتيش في النوايا، وأحاول إن وقعت في ذلك أن أعتذر وأراجع مواقفي، وربما لذلك يحار البعض في تصنيفي، وتلك نعمة أحمد الله عليها وأسأله أن يرزق بها كل من يقرأ لي، إذا كان يرغب فيها طبعا.

هذا، وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر، ولو شاء لهداكم أجمعين.

نُشِر بالمصري اليوم
بتاريخ 23/ 5/ 2011

للاطلاع على رأي مخالف ردا على مقال الأستاذ بلال فضل اضغط هنا

 


اعلان