Dp قصة قصيرة.. ظل رجل (1)
الرئيسية > ثقافة > ثقافة وأدب > قصة قصيرة.. ظل رجل (1)

قصة قصيرة.. ظل رجل (1)

تغلق باب الكوخ من خلفها تخطو وسط الحشائش التي يعلو حفيفها فوق صرير حشرات الليل ترفع موقد الكيروسين تضيء طريقها بالرغم من أنها تحفظه

سالي عادل
تغلق باب الكوخ من خلفها، تخطو وسط الحشائش التي يعلو حفيفها فوق صرير حشرات الليل، ترفع موقد الكيروسين تضيء طريقها بالرغم من أنها تحفظه، تتوقف، يشرق وجهها لرؤيته تحت ضوء القمر البعيد، فترفع يدها تلوّح له، ثم تحث الخُطا.

يقابلها بذراعيه المبسوطتين، ولكنها تميل تبسط ملاءتها تحت التوتة العملاقة، تخلع نعلها وتتسلقها بقدمها المشقق باحتراف فينحسر طرف جلبابها عن ساق خمرية مُجرّحة، تلتفت تنظر إليه وتغمز بعينها، ثم تتابع التسلق حتى غصن ممتلئ، فتهزّه حتى تستكفي من التوت المتساقط، ثم تنزل تستند إلى التوتة وتلقم التوت في استمتاع:
– أتعرف؟ هذا التوت يزداد حلاه في كل مرة!

تقترب منه، وتلقمه توتة في فمه:
– حتّى ذق بنفسك!

لكنه لا يلتقطها، يدعها تهوى.. تنظر إلى التوتة المتهاوية في حسرة، لكنها تتبعها بما بقي في يدها من توت، فترمي بها تحت أقدامه، وتقول:
– لا بأس، أنا أعرف ما تريد.

تقترب بوجهها منه فيوخزها وجهه الخشن، تبسط يديها من أسفل ذراعيه المبسوطتين فتحتوي خصره النحيل، يحتك جسدها الغض بجسده الصلب فتشتعل نيرانا، ترفع رأسها عبر عنقه إلى وجهه فيما تفك أزرار قميصه بيدها، وحين يشتد توقها تلتقم شفاهه فيمتلئ فمها بالشوائب، ويحيل لعابها التراب إلى طين، تبتلعه في نهم ملاحقة نشوتها، وفي ذروة انفعالها تراه يهتز بين يديها حتى تسقط قبعته، حينها تميل تلتقط القبعة فتعيد تثبيتها إلى رأسه المحشوّ، وتغلق أزرار القميص.

تلتقط أنفاسها فيما تميل تحمل الملاءة ومصباح الكيروسين، وفي طريق العودة للدار تلتفت تمنحه عبارتها المألوفة:
– إلى اللقاء يا خيالي وظلي.

 

***


في فراشها وقبل النوم، تتناول صورة والدتها، وتنظر إليها في حنين، تلتمع عينا والدتها بالنار وتقول:
– رددي ورائي يا ابنتي: “كلهم خائنون”.

تتسع عيناها في اهتمام، تردد من خلفها كالمأخوذة:
– خائنون كلهم.
– قولي “خيال المآتة هو رجلي الوحيد”.

تومئ برأسها مؤكدة:
“رجلي الوحيد خيال المآتة”.
تبتسم أمها وتغمض جفنيها. تضع الصورة تحت الوسادة، وتغمض عينيها في سعادة.

 

***


في الصباح تنتفض تجلس القرفصاء في فراشها، تهرش شعرها وتتثاءب بغير لياقة، ثم تتجه إلى الخارج. تضع التبن للبقرة في الحظيرة الملحقة، وفتات الخبز للدجاج، ولا تنس أن تطعم الكلب.
تخطو في خطوات واسعة بين العشب إلى خيال المآتة:
– صباح الخير يا خيالي ورجلي.

تطرد عن رأسه عصفورا سمجا، وتلمّع ذراعيه بخرقة مبتلة، فيما تهمس بأذنه:
– كنت رائعا بالأمس.
ثم تبدل قميصه الذي تساقطت عليه فضلات الطيور:
– هذا الصباح بارد جدا، ولو لم يصبح الجو أكثر سوءا، سأنهي أعمالي وآتي أجلس معك.

ثم تلتقط قبعته وتغادر:
– سأحيكها لك، فقد نقرتها العصافير.
تعود إلى البقرة فتحلبها، وفي طريقها إلى الدار تلتقط البيض، تعد إفطارها وتجلس تتناوله.

يطلق المذياع نغمات شجية، وتعبّر المغنية بجودة بالغة عمّا تشعر به، تقول إنها تنتظر موعدها معه، وهذا تشعر به، تقول إنها تشعر بالسعادة حين تراه، وهذا تشعر به أيضا، كما تقول إنها تتمنى أن تمضي بقية عمرها معه، وهذا بالضبط ما تشعر به.

تتناول قبعة خيال المآتة وتجلس تحيكها في شرود، بينما تستمع إلى النغمات.
آه.. وتقول إن هذا الإحساس هو الـ.. حب..

تبتسم، ليس كل الرجال خائنين كما تقول أمها، فخيال المآتة لم يخنها ولا مرة.
تقفز إلى الخارج، تثني طرف جلبابها وتعقده حول خصرها، تتناول الخرطوم وتبدأ بري الحشائش والأشجار، ثم تلتقط الفأس وتبدأ في حرث بقعة جديدة.

ينتصف النهار، تزيح حبّات العرق التي علت جبهتها برغم برودة الجو، وتتفحص في السماء الغائمة، ما كان يجب أن تتعجل بالري، فمن الواضح أنها ستمطر.

يدوّي هزيم الرعد، البرق قادم ويجب أن تحتمي بالكوخ سريعا كي لا يمسّها البرق في تلك الأرض المبتلة.

تدع الفأس وتركض إلى الداخل، تتدثر بشال فوق كتفيها وترقب السماء من النافذة، ها هي الأمطار تسقط أمام عينيها المتسعتين، ليست سيئة كما قالت أمها، ليست سيئة حين ترتطم بنافذتها ثم تنكسر فوقها، وليست سيئة حين تخترق قش السقف وتتسرب إلى الداخل، إنها شفافة، وحزينة، ويكفي أنها الوحيدة التي طرقت بابها.

تفتح الباب وترفع سترة ثقيلة فوق رأسها بيديها الاثنتين، تركض نحو خيال المآتة، فتنزل السترة فوقه، وتعود ركضا للداخل.

لم يبدُ لها أنها ستتمكن من متابعة الحرث اليوم، فالمطر لا زال غزيرا، لذلك فقد وجدت أن تتسلى بإعداد مفاجأة لخيال المآتة.
أخرجت صندوق ملابس والدها، وانتقت قميصا مشجّرا يلتمع بزهوة الجديد، وبدأت في تعديله لتناسب الخيال.

شعرت بجلبة في الخارج، كلبها ينبح بشكل جنوني، كادت تفتح الباب لكن خاطرا أخبرها بأن تنظر أولا من النافذة، ومن بين الزخّات المتساقطة استطاعت أن تلمح أحدهم، بل هما اثنين، أو بمعنى أدق هو واحد يحمل الآخر بين يديه.

إنه رجل، يبدو من هيئته الخارجية التي تشبه هيئة والدها وبعض الباعة في المدينة، إنه رجل، وهو خائن مثلهم.

يقف على البُعد، لا يجرؤ على الاقتراب من مجال الكلب الشرس، ولكنه يصيح من موضعه البعيد:
– أرجو المساعدة، زوجتي بحال سيئة ونزفت كثيرا، حادثة على الطريق، أرجو المساعدة العاجلة.

لا تفكر مرتين، تتناول البندقية وتفتح خصاص النافذة، تطلق طلقتين في الهواء تتبعها بصوت أرادت له أن يكون خشنا:
– ابتعد.

يصيح من البعد:
– أرجوك! زوجتي ستموت! السيارة تحطمت والطقس يزيد الأمور سوءا، ولا أحد يمر في هذه الأنحاء، لا أطلب إلاّ المأوى حتى الصباح.

لماذا يخاطبها بصيغة المذكر، ألا يستطيع هو الآخر التمييز بين الذكر والأنثى! تفتح باب الكوخ، تتقدم رويدا، تتفحصه من أسفل إلى أعلى، يلهث ويقطر ماءً، وزوجته تقطر دما، تخفض البندقية، تربت فوق رأس الكلب فيهدأ نباحه، فيما تشير إليه فيتقدم سريعا نحو الكوخ.

يُنزِل زوجته فوق الأريكة، وينحني يجلس على الأرض بمواجهتها، يزيح عن وجهها حبّات المطر والدماء، تطالعه بنظرة واهنة بينما يحدّثها لاهثا:
– اطمئني، اطمئني، ستكونين بخير.

ثم يلتفت ينظر إلى مضيفته:
– شكرا لكِ، سأظل أحمل جميلكِ طوال العمر.
لا تعرف كيف تجيبه، ولا ينتظر إجابة، يعاجلها:
– ألا يوجد هاتف هنا؟

تهز برأسها نفيا، فيقول:
– إذن من فضلك أحضري لي غصنا من الخشب أصنع منه جبيرة، فيبدو أن ساقها قد كُسِرت.

تلتقط غصن شجرة كانت تعدّه للتدفئة، فيطلب سكينا ويبدأ في تشذيبه، ثم يسألها أن تعاونه في تثبيت زوجته، ويطلب من زوجته الصمود لما ستشعر به من الألم، ولكنها حين تقترب منه للمساعدة تلمح جرحا غائرا في كتفه، فلماذا لا يعني بنفسه أولا؟

ترقبه في مجلسه تحت قدمي زوجته، تلمح التقطيبة فوق جبينه في محاولته الدءوبة أن يضبط وضع العظمة المكسورة، تلمح الدمعة التي تتلألأ خلف عينه كلما صرخت زوجته ألما، وترى جيدا يده التي تلتقط يدها ليلثمها ويؤكد:
– ستكونين بخير، ستكونين بخير.

تغمض الزوجة عينيها وتذهب في عالم آخر، يدور يسند ظهره إلى الأريكة ويلتقط أنفاسه:
– حالتها شديدة الصعوبة، فليتلطف الله بها.

يتلمس كتفه ويئن في وهن، ها قد شعر للمرة الأولى أنه مصاب. تركض تجلب له سترة تضعها فوقه، لكنه يتناولها ويغطي بها زوجته.. الآن صارت عندها صورة كاملة، الآن تدرك أن هذا الرجل ليس.. خائنا.

تلتمع عينا الصورة على الجدار بالنار!
تتحاشاها، تترصدها عين أمها حتى لتكاد تشعر بلسعة النار بين عينيها، تخفي وجهها بيديها، تعدّل سريعا من أفكارها، تردد خلف أمها من قبل أن تقول: “خائنون، خائنون”.

تجتذب الكلمة انتباهه:
– ماذا؟

تنزل يديها:
– لا شيء، هل تفضّل أن تنقلها للفراش؟
– الحركة ليست جيدة بالنسبة لها.
– إذن فلتدخل أنت للفراش.
– بل سأبقى جوارها.
– ولكنك بحاجة إلى الراحة أيضا، نم أنت وسأبقى أنا جوارها.

يقف، يقترب منها، ينظر بعمق إلى عينيها ويقول بكل مشاعره:
– أنا ممتن.

ثم يدخل إلى الفراش. وبالرغم من حاجتها الماسة إلى النعاس، تلك التي استيقظت منذ ساعات الفجر الأولى وقامت بشتى أعمال الفلاحة وكشفت عن أعتى الألغاز عن الرجال، ولكن شيئا غامضا كان قد أطار بكل رغبة في النوم، وكل ما بقي ليشغل تفكيرها، هو الطريقة التي نظر بها في عينيها وقال: “أنا ممتن”.

 

***


في الليل وعلى بصيص ضوء خافت، تتأمل وجهه الناعس، لو أن هذا خائن فإنه لا يوجد أوفياء بالعالم، لو أن هذا خائن فإنها لا تريد أن تبقى بالعالم، لو أن هذا خائن فلتصعقها عينا أمها الناريتان.

تتوهج الوسادة في بقعتين متجاورتين أسفل رأسه، يتحسس عنقه ويهب من النوم فزعا، يرمقها بأعين متسائلة، تتجمد يديها في الهواء:
– أنا فقط أحتاج الوسادة.

تمد يدها تلتقط الوسادة من أسفل رأسه، وتلتقط معها صورة أمها المحفوظة وتغادر، وبأسرع من قدرته على الاستيعاب، يكون قد استغرق في النوم.

 

***

 

                                                                                                                                          يُتبع

 

اعلان